شاهد الحلقة الاولى من حلقات الباحث الامازيغي لحسن ايت الفقيه حول الرموز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو
"أحيانا كثيرة تجدهن في الحقول والمسالك الوعرة في الجبال يرددن صيحات غنائية لا يضاهيها من الحدة والجمال سوى مرأى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن وأحياناً أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة، مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال تصر على تحدّي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية، جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال، والطبيعة بالإنسان، والألوان بالملامح، والصور بالأصوات، والغناء بالرسم على الجسد". وتتفاوتُ كثافةُ الوشوم في أجساد النساء الأمازيغيات حسب القبائل، وحسبَ الفترة التي وُضِع فيها الوشم. ففي القديم كانت الأمازيغيات يضعن وشوماً وافرةً ، ثمّ بدأن يخفّفن منها شيئاً فشيئاً، حتى توقّفن عن الوشم بصفةٍ نهائية في أغلب المناطق.
وتُمارس بعض القبائل الأمازيغية نوعاً آخر من الوشم يُسمّى "أحجّام"، وهي كلمةُ تعني بالأمازيغية "المداوي" أو "الشافي"، ويُستعمل هذا الوشم لأغراضٍ علاجية، تضعُه النّساءُ في وجوههنّ أو في أماكن مختلفة من الجسم فيضعونه رجالا كانو أم نساءا في أماكن غير ظاهرة مثل اليد، المعصم،الراس والبطن وغيرها ، والهدفُ منه هو التخلّص من الصّداع أو آلام البطن والحلق وأمراض عديدة وعديدة... الفرق الوحيد بينه وبين الوشم العادي هو أن "أحجّام" يُوشَم باستعمال السّكين وليس الإبرة خصوصا وشم الرقبة الذي ارتبط بالقيمة العلاجية، وبالتحديد لعلاج مرض goitre ، أما عن إزالة آلام العيون تقوم المرأة بوشم يغطي قوس الحاجب، ولم تكتفِ بالعلاج فقط بل ابتكرت أوشاماً تقيها من المرض ووزعتها على كل جسدها، مثلاً الوشم على الوتد والعرقوب والكتف للوقاية من العقم، وداء الخلع بالوشم على المعصم.
كما سبق وذكرت لم تكن الرسوم والعلامات الموشومة على جسد المرأة الأمازيغية عبثية، فمثلاً الخطّان المتوازيان على الذقن فهما كنايةٌ عن ثُنائية الخير والشرّ داخل روح كلّ إنسان وعلامة + لا تعتبر صليباً بل هي أيضا حرف "التاء" في الأبجدية الأمازيغية مستلهم من كلمة تامطوت بمعنى المرأة .
في مقالها "الوشم على وجوه النساء البربريات"، تطرّقت الكاتبة البريطانية المهتمة بالثقافات القديمة سارة كوربيت، إلى معاني الرّموز التي كانت تتّخذها النّساء الأمازيغيات على وجوههنّ كوشوم. فالشّجرةُ تعني القوة، والنّبتة والعنكبوت يُشيران إلى الخصوبة، والأفعى تدلّ على القدرة على الشّفاء من الأسقام، والذّبابة والنحلة تدُلّان على الطاقة الخارقة؛ .
أما وشم عين الحجلة فلقد اعتبرته مارغريت كورتي كلارك -كاتبة وباحثة في الثقافات- رمزاً للجمال فكتبت: "في الثقافة البربرية، الحجل يعتبر كطائر ذي جمال وحسن كبير، ما يجعله يرتبط بصفات الزوجة الجيدة، ويعتقد أيضاً أن عينيه الثاقبتين هما مراقب حذر ضد الخطر"، أما علامة السهم التي توشم على الجزء العلوي من الذراع فهي تمثل ركاب سرج الحصان الذي يحمل قصة لفرسان المنطقة ليحتفظ جسدها بذاكرة جماعية لبطولات عرش، أما باقي الأوشام كسلسلة نقاط على الجبين ورمز الشمس على الخد، والخط المستقيم والشارات العسكرية والأشكال النباتية والحيوانية والأشكال الخماسية والمشبكات، تلك الرسوم على المعصمين، استعملت للخصوبة والبلوغ فضلاً عن دلالات دينية تبعد الحسد والأرواح الشريرة وتجلب الحظ.
وباعتبار الوشم علامةً لتمييز الجسد وإعادةِ بنائه وكتابة تاريخه، فإنه "يتجاوز الوظيفة التجميلية إلى وظائف اجتماعية أخرى تُعلن عن مكانةٍ ما، أو دور ما، أو نظرةٍ ما للكون والعالم، أو خوفٍ ما من العالم اللامرئي". هناك من يقول أن الوشوم وضعت قديماً بغرض التعريف والتمييز بين الناس والقبائل؛ ولذلك كان الأمازيغ يمارسون عادة الوشم، الهدفُ الرئيسي منها كان التمييز بين قبيلة وأخرى وأيضا التمييز بين النساء البالغات والمتزوجات وبين الفتيات اللواتي لم يبلغن بعد.
من خلال بحث قام به الفرنسيان تريسان ريفيير وجاك فوبلي حول "الوشم عند قبائل الشاوية والأوراس"، توصّل الباحثان المختصان في الإثنوغرافيا إلى أنّ "الشباب داخل هاتين القبيلتين كانوا يضعون الوشم في أيديهم من أجل إبراز جمالها أكثر وإظهارها أكثر أناقةً، خاصّةً أثناء الحفلات والأعراس، حين يقومون بالضّرب على الدّف أو العزف على النّاي".
وبالرّغم من أنّ الوشمَ كان دائماً مُباحاً نوعا ما لدى الأمازيغ المسلمين عكسَ اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعتبرونه محرّماً، فإن "المدّ الوهابي الذي وجدَ له مكاناً في البلدان المغاربية خلال سنوات الثمانينات والتسعينات، جعل العديد من النّساء الأمازيغيات يتّجهن إلى التخلّص من الوشوم على أجسادهنّ، أحياناً بطرقٍ غير طبّية، معتقداتٍ أنّهنّ يكفّرن عن ذنبٍ أو خطأ". مثل الكثيرِ من العادات والمعتقدات، بدأ الوشمُ عند الأمازيغ يختفي تدريجيا، حسب المناطق، منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي. وأصبح آخرُ جيلٍ يحمل هذه الرّموز والرّسوم على الجسد هو جيلُ الجدّات. هؤلاء الجدات اللواتي يرحلن تِباعاً، حاملاتٍ معهنّ حكاياتهنّ الشفوية ووشومهنّ البديعة، تُدفنُ الوشوم والحكايات، ويُطمسُ جزءٌ كبير من تاريخ وهوية الأمازيغ. فإنّ اختفاء الوشم عند الأمازيغ مرتبطٌ بأسباب متعدّدة، "أهمّها الجانب الديني و أيضا مُحاولة إخفاء الهوية الترابية، إذ عمدت الأنظمة في كلّ من الجزائر ،المغرب وتونس مثلاً، ابتداءا من فترة الستينات، إلى قتل الجذور التراثية ومحاربة كلّ ما هو تقليدي، بما في ذلك اللباس المحلّي والعادات المحلّية واللغة الأمازيغية بغية خلق إنسانٍ معرّب ومؤدلج".
هي خسارةٌ كبيرةٌ للثقافة الأمازيغية، فقد كانت للوشومِ دائماً لمسةٌ جمالية أخّاذة. كانت بسيطة وعميقةً في أشكالها. كأنّنا خسرنا جزءاً من مخيالٍ استطيقي كان يتميّز به الإنسانُ الأمازيغي كما تتميز به جميع الشعوبِ على الأرض".إن اختفاء الوشم عند الأمازيغ يرجعُ إلى "تغيّر المجتمع باستمرار، وتغيّر طريقة تدبير الجسد، وتغيّر نظرة الإنسان للكون، وتغيّر طرق إعادة بناء الجسد ثقافيا أيضاً، إذ توجد اليوم آلياتٌ جديدة لتحقيق الظهور والاحتفاء بالجسد، بالإضافة إلى أنّ المنظور الاجتماعي للمرأة التي تضع وشماً لم يعُد حاضراً اليوم وينظر له نظرة دونية. اذ تغيّرت معايير الجمال إذن فقد تغيرت وجهات نظر الناس حوله وذلك راجع لعدة أسباب.
مهما اختلفت التفسيرات حول الوشم الأمازيغي وتعددت دلالاته، لكنّه يبقى تلك اللغة المرهفة التي تعبّر عن رغبات الجسد، وتُظهر نزوع الرّوح الإنسانية نحو الكمال وسعيها للخلود، إنّه ذلك الجمالُ الذي لا يمحوه سوى الموت، جمالٌ مصنوعٌ من الطبيعة ومن خلالِها ومن أجل الالتصاق بها، زينةٌ تعطي إشعاعاً للجسد النسائي دون إخفاء طبيعتهنّ ووجوههنّ الحقيقية، بعيداً عمّا تروّجه العولمة اليوم من أقنعة ومساحيق تجميل.